فصل: الرد على هذا الاستدلال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن كان المسيح هو رب العالمين الذي يجب أن يعبد، وقد صرفهم عن اعتقاد ذلك بضربه لهم المثل، فيكون قد أمرهم بعبادة غيره، وصرفهم عن عبادته، والتقدير أنه هو الإله الذي يعبد، فيكون ذلك غشًا وضلالة من المسيح لهم وهذا لا يليق بالأنبياء والمرسلين فضلًا ممن يدعى فيه الألوهية.
هذا وقد أطلق الكتاب المقدس لفظ الله على كثيرين ولم يقل أحد أن فيهم طبيعة لاهوتية طبقًا للآتي:
1- ورد في سفر القضاة [13: 21، 22] إطلاق لفظ الله على الملك: يقول النص «وَلَمْ يَتَجَلَّ مَلاَكُ الرَّبِّ ثَانِيَةً لِمَنُوحَ وَزَوْجَتِهِ. عِنْدَئِذٍ أَدْرَكَ مَنُوحُ أَنَّهُ مَلاَكُ الرَّبِّ. فَقَالَ مَنُوحُ لاِمْرَأَتِه نموت موتًا لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا اللهَ».
وواضح أن الذي تراءى لمنوح وامرأته كان الملك.
2- ورد في سفر الخروج [22: 8] إطلاق لفظ الله على القاضي:
يقول النص: «وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم، هل يمد يده إلى ملك صاحبه».
فقوله: إلى الله، أي: إلى القاضي.
3- وكذلك أيضًا جاء في سفر الخروج [22: 9] إطلاق لفظ الله على القاضي:
يقول النص «في كل دعوى جنائية من جهة ثور أو حمار أو شاة أو ثوب أو مفقود ما، يقال: إن هذا هو، تقدم إلى الله دعواها، فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه باثنين».
فقوله إلى الله، أي: إلى القاضي نائب الله.
4- كما أطلق الكتاب المقدس لفظ إله على القاضي فقد ورد في المزمور [82: 1]: «الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي».
5- وأطلق الكتاب المقدس لفظ الآلهة على الأشراف فقد ورد في المزمور [138: 1] قول داود عليه السلام:
«أحمدك من كل قلبي، قدام الآلهة أعزف لك».
6- وأطلقه على الأنبياء كموسى في سفر الخروج [7: 1]:
يقول النص: «قال الرب لموسى: انظر أنا جعلتك إلهًا لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك».
والخلاصة:
لو كان إطلاق كلمة الله أو إله على المخلوق يقتضي أن اللاهوت حل فيه للزم بناء على النصوص السابقة أن يكون الملك والقاضي والإشراف يكونون آلهة، وهذا لم يقل به أحد.
ولكن بالنظر لكون الملائكة والقضاة نوابًا عن الله أطلق عليهم كلمة الله وبالنظر إلي أن أولئك الأشراف فيهم صفة المجد والقوة اللتين يوصف بهما الله، أطلق عليهم لفظ الله مجازًا.
وبعد كل ما قد ذكرناه نقول ان الواجب فهمه من قول المسيح: «أنا والآب واحد» إنما يريد أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله، كما يقول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد، ويقول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد، لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدي عنه ما أرسله به ويتكلم بحجته، ويطالب له بحقوقه.
ثانيًا: هذا التعبير الذي أطلقه المسيح على نفسه، بأنه والآب واحد، أطلقه بعينه تماما على الحواريين عندما قال في نفس إنجيل يوحنا: «ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضا من أجل الذي يؤمنون بي بكلامهم ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليؤمن العالم أنك أرسلتني، وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مكملين إلى واحد» إنجيل يوحنا 17/ 20- 23.
إذن فالوحدة هنا ليس المقصود منها معناها الحرفي، أي الانطباق الذاتي الحقيقي، وإنما هي وحدة مجازية أي الاتحاد بالهدف والغرض والإرادة، وهذا ظاهر جدا من قوله«ليكونوا هم أيضا واحدا فينا» وقوله: «ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد، أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مكملين إلى واحد»، حيث أن المسيح دعا الله تعالى أن تكون وحدة المؤمنين الخلَّص مع بعضهم البعض مثل وحدة المسيح مع الله، ولا شك أن وحدة المؤمنين مع بعضهم البعض وصيروتهم واحدًا ليست بأن ينصهروا مع بعض ليصبحوا إنسانًا واحدًا جسمًا وروحًا!! بل المقصود أن يتحدوا مع بعضهم بتوحد إرادتهم ومشيئتهم ومحبتهم وعملهم وغرضهم وهدفهم وإيمانهم... الخ أي هي وحدة معنوية، فكذلك كانت الوحدة المعنوية بين الله تعالى والمسيح.
ويؤكد ذلك أن المسيح دعا الله تعالى لوحدة الحواريين المؤمنين ليس مع بعضهم البعض فحسب بل مع المسيح ومع الله تعالى أيضًا، بحيث يكون الجميع واحدًا، فلو كانت وحدة المسيح مع الله هنا تجعل منه إلهًا، لكانت وحدة الحواريين مع المسيح ومع الله تجعل منهم آلهة أيضا!! وللزم من ذلك أن المسيح يدعو الله تعالى أن يجعل تلاميذه آلهة، وخطورة ذلك- كما يقول الإمام أبي حامد الغزالي- ببال من خلع ربقة العقل، قبيح، فضلا عمن يكون له أدنى خيار صحيح، بل هذا محمول على المجاز المذكور، وهو أنه سأل الله تعالى أن يفيض عليهم من آلائه وعنايته وتوفيقه إلى ما يرشدهم إلى مراده اللائق بجلاله بحيث لا يريدون إلا ما يريده ولا يحبون إلا ما يحبه ولا يبغضون إلا ما يبغضه، ولا يكرهون إلا ما يكرهه، ولا يأتون من الأقوال والأعمال إلا ما هو راض به، مؤثر لوقوعه، فإذا حصلت لهم هذه الحالة حسن التجوز.
ويدل على صحة ذلك أن إنسانا لو كان له صديق موافق لغرضه ومراده بحيث يكون محبًا لما يحبه ومبغضًا لما يبغضه كارهًا لما يكرهه، جاز أن يقال: أنا وصديقي واحد. ويتأكد هذا المعنى المجازي لعبارة المسيح إذا لا حظنا الكلام الذي جاء قبلها وأن المسيح كان يقول أن الذي يأتي إلي ويتبعني أعطيه حياة أبدية ولا يخطفه أحد مني، لأن أبي الذي هو أعظم من الكل هو الذي أعطاني أتباعي هؤلاء ولا أحد يستطيع أن يخطف شيئا من أبي، أنا وأبي واحد، يعني من يتبعني يتبع في الحقيقة أبي لأنني أنا رسوله وممثل له وأعمل مشيئته فكلانا شيء واحد. وهذا مثل قول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن سيدنا محمد {من يطع الرسول فقد أطاع الله}، وأعتقد أن قصد الوحدة المجازية واضح جدًا.
وقد جاء نحو هذا التعبير بالوحدة المجازية مع الله، عن بولس أيضا في إحدى رسائله وهي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (6/ 16-17) حيث قال: «أم لستم تعلمون أن من التصق بزانية هو جسد واحد لأنه يقول: يكون الاثنان جسدا واحدا؟ وأما من التصق بالرب فهو روح واحد»، وعبارة الترجمة العربية الكاثوليكية الجديدة: «ولكن من اتحد بالرب صار وإياه روحا واحدا».
فكل هذا يثبت أن الوحدة هنا لا تفيد أن صاحبها هو الله تعالى عينه- تعالى الله عن ذلك- وإنما هي وحدة مجازية كما بينا.
ويشبه هذا عندنا في الإسلام ما جاء في الحديث القدسي الشريف الصحيح الذي رواه أبو هريرة عن خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن الله تعالى يقول: «وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها...» الحديث.
ولا شك أنه ليس المقصود من الحديث أن الله تعالى يحل بكل جارحة من هذه الجوارح، أو أنه يكون هذه الجوارح بعينها!! لأن هذا من المحال، بل المقصود أنه لما بذل العبد أقصى جهده في عبادة الله وطاعته، صار له من الله قدرة ومعونة خاصتين، بهما يقدر على النطق باللسان، والبطش باليد.. وفق مراد الله عز وجل وطبق ما يشاؤه الله تعالى ويحبه. «من كتاب الأستاذ سعد رستم».
ثالثًا: جاء في إنجيل يوحنا [17: 11] أن المسيح طلب من الآب أن يحفظ تلامذته فقال: «يا أبت القدوس احفظهم باسمك الذي وهبته لي ليكونوا واحدًا كما نحن واحد».
فهنا ذكر المسيح وجه شبه بينه وبين تلاميذه، ولما كان المسلم به أن وجه الشبه بين المشبهين لابد أن يكون متحققًا في طرفي التشبيه، كان من غير الجائز أن يكون وجه الشبه بين وحدة المسيح بالآب، ووحدة التلاميذ بعضهم ببعض، هو الجوهر والمجد والمقام.
لأن هذا المعنى لو كان موجودًا في المشبه به، وهو وحدة المسيح بالآب على الفرض والتقدير، فهو قطعًا غير موجود في المشبه وهو وحدة التلاميذ بعضهم ببعض.
لذلك اقتضى القول بأن وجه الشبه هو الغاية والطريق وإرادة الخير والمحبة دون أن تكون هناك خصومة أو مخالفة أو عداوة.
فالتشبيه في قول المسيح: «ليكونوا واحدًا كما نحن» يفسر لنا معنى الوحدة في قوله: «أنا والآب واحد».

.قول المسيح: من رآني فقد رأى الآب:

يستدل النصارى على لاهوت المسيح بقوله الوارد في إنجيل يوحنا: «من رآني فقد رأى الآب».

.الرد على هذا الاستدلال:

إن ما أراده المسيح من هذه العبارة هو: أنه من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي، وهذا ما يقتضيه السياق الذي جاءت به هذه الفقرة لأن أسفار العهد الجديد اتفقت على عدم إمكان رؤية الله طبقًا للآتي:
- ورد في إنجيل يوحنا [1: 18]:
«الله لم يره أحد قط».
- ما ورد في إنجيل يوحنا [5: 37]:
«والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته».
- ما ورد في رسالة يوحنا الأولى [4: 12]:
«الله لم ينظره أحد قط».
- ويقول بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس [6: 16] عن الله:
«الذي لم يره أحد ولا يقدر أن يراه».
فإذا تقرر ذلك فليس معنى قول المسيح «الذي رآني فقد رأى الآب» ان الذي يرى المسيح يرى الله لأن ذلك طبقًا للأدلة السابقة من المحال. فلابد من المصير إلى مجاز منطقي يقبله العقل وتساعد عليه النصوص الإنجيلية المماثلة الأخرى.
وبمراجعة بسيطة للأناجيل نجد أن مثل هذا التعبير جاء مرات عديدة، دون أن يقصد به قطعا أي تطابق وعينية حقيقية بين المفعولين.
مثلًا في إنجيل لوقا [10/ 16] يقول المسيح لتلاميذه السبعين الذين أرسلهم اثنين اثنين إلى البلاد للتبشير:
«الذي يسمع منكم يسمعني والذي يرذلكم يرذلني والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني».
ولا يوجد حتى أحمق فضلا عن عاقل يستدل بقوله: «من يسمعكم يسمعني»، على أن المسيح حال بالتلاميذ أو أنهم المسيح ذاته!
وكذلك جاء في إنجيل متى [10/ 40] أن المسيح قال لتلاميذه: «من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني».
ومثله ما جاء في إنجيل لوقا [9/ 48] من قول المسيح في حق الولد الصغير:
«من قبل هذا الولد الصغير باسمي يقبلني ومن قبلني يقبل الذي أرسلني».
ووجه هذا المجاز واضح وهو أن شخصا ما إذا أرسل رسولا أو مبعوثا أو ممثلا عن نفسه فكل ما يُعَامَلُ به هذا الرسول يعتبر في الحقيقة معاملة للشخص المرسِل أيضا.
وإذا عدنا للعبارة وللنص الذي جاءت فيه، سنرى أن الكلام كان عن المكان الذي سيذهب إليه المسيح وأنه ذاهب إلى ربه، ثم سؤال توما عن الطريق إلى الله، فأجابه المسيح أنه هو الطريق، أي أن حياته وأفعاله وأقواله وتعاليمه هي طريق السير والوصول إلى الله، وهذا لا شك فيه فكل قوم يكون نبيهم ورسولهم طريقا لهم لله، ثم يطلب فيليبس من المسيح أن يريه الله، فيقول له متعجبا: كل هذه المدة أنا معكم وما زلت تريد رؤية الله، ومعلوم أن الله تعالى ليس جسما حتى يرى، فمن رأى المسيح ومعجزاته وأخلاقه وتعاليمه التي تجلى فيها الله تبارك وتعالى أعظم تجل، فكأنه رأى الله فالرؤيا رؤيا معنوية.